فصل: تفسير الآيات (146- 148):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (146- 148):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
قلت: {كأَيِّن}: أصله: أيْ، دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى {كم}، وأثبت التنوين نوناً على غير قياس، وقرأ ابن كثير، {وكائن}، على وزن فاعل، ووجهه: أنه قلب الياء قبل الهمزة فصار: كيَاءٍ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فصار كائن، وهما لغتان، وقد جمع الشاعر بينهما في بيت، فقال:
كَأيّنْ أبَدْنَا مِنْ عَدوٍّ بعِزِّنا ** وكَائِنْ أجَرْنا مِنْ ضَعيفٍ وخائِفِ

و{الرِبِّيون}: جمع رُبَّة، أي: الفرقة. أي: معه جموع كثيرة، وقيل: العلماء الأتقياء، وقيل: الولاة، وهو: إما مبتدأ فيوقف على {قُتل}، أو نائب فاعل {قُتل}، أو فاعل على من قرأ بالبناء له، و{كثير}: نعت له، كقوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التّحْريم: 4]؛ لأن فعيلاً يخبر به عن المفرد والجمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكأين}؛ وكم {من نبي قتل} في المعركة ومعه جموع كثيرة، أو ربانيون علماء أتقياء، فلم يفشلوا ولم يضعفوا، بل ثبتوا على دينهم وجهاد عدوهم، أو يقول: كثير من الأنبياء قتل معهم ربانيون كثير، أي: ماتوا في الحرب فثبت الباقون، ولم يفتروا ولم يضعفوا عن عدوهم، ويترجح الأول بما صرَخَ به الصارخ يوم أحد: إن محمداً قد مات، فضرب لهم المثل بقوله: {وكأين من نبي قُتل}، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل نبيّ قط في المحاربة.
أو: {وكأين من نبيّ قاتل} أي: جاهد معه {ربِّيون كثير}، وبعدما قتل نبيهم أو جموعهم {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} أي: فما فتروا: ولم ينكسر جندهم؛ لأجل ما أصابهم من قتل نبيهم أو بعضهم، {وما ضعفوا} عن جهاد عدوهم ولا عن دينهم، {وما استكانوا} أي: خضعوا لعدوهم، من السكون؛ لأن الخاضع يسكن لعدوه يفعل به ما يريد، فالألف إشباع زائد، أي: فما سكنوا لعدوهم بل صبروا له، {والله يحب الصابرين} فينصرهم ويعزهم ويُعظم قدرهم.
{وما كان قولهم} عند قتل نبيهم مع ثباتهم على دينه، {إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا} الصغائر، {وإسرافنا في أمرنا} أي: ما تجاوزنا به الحد في أمر ذنوبنا، كالكبائر، {وثبت أقدامنا} في مداحض الحرب؛ لئلا ننهزم، {وانصرنا على القوم الكافرين} من أعدائنا، فَهلاَّ فعلتم مثلهم، وقلتم ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
{فآتاهم الله} في ثواب الاستغفار واللجوء إلى الله {ثواب الدنيا} وهو النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر، {وحسن ثواب الآخرة} وهو النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد، وخص ثواب الآخرة بالحسن؛ إشعاراً بفضله، وأنه المعتد به عنده، {والله يحب المحسنين} الثابتين على دينهم، لأنهم أحسنوا فيما بينهم وبين ربهم بحفظ دينه، فأحبهم الله وقربهم إلى حضرته.
الإشارة: وكم من المريدين والأتباع مات شيخهم أو قتل، فثبتوا على طريقهم، فما فَشِلوا ولا ضعفوا، ولا خضعوا لمن يقطعهم عن ربهم، بل صبروا على السير إلى ربهم، أو الترقي في المقامات، ومن لم يرشد منهم طلب من يكمل له، {والله يحب الصابرين}، فإذا أحبهم كان سمعهم وبصرهم، كما في الحديث. وما كان حالهم عند موت شيخهم إلا الالتجاء إلى ربهم، والاستغفار مما بقي من مساوئهم، وطلب الثبات في مواطن حرب أنفسهم، فأعطاهم الله عزّ الدنيا والآخرة عزّ الدنيا بالإيمان والمعرفة، وعزّ الآخرة بدوام المشاهدة، فكانوا أحباب الله؛ {والله يحب المحسنين}.

.تفسير الآيات (149- 150):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا الذين كفروا} وهم المنافقون، لما قالوا للمسلمين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دينكم الأول، ولو كان نبيّاً ما قتل، {يردوكم على أعقابكم} راجعين عن إيمانكم، {فتنقلبوا خاسرين} مفتونين عن دينكم، فتحبط أعمالكم فتخسروا الدنيا والآخرة، بل أثبتوا على إيمانكم، فإن الله {مولاكم} سينصركم ويعزكم، {وهو خير الناصرين}، وقيل: إن تسكنوا إلى أبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل: عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم؛ فإنه يجر إلى موافقتهم على دينهم، لاسيما إن طالت مدة الاستئمان.
قلت: وهذا هو السبب في ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى، هم وأولادهم، والعياذ بالله من سوء القضاء.
الإشارة: يا أيها المريدون- وخصوصاً المتجردين- إن تطيعوا العامة، وتركنوا إليهم، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بطلب الدنيا وتعاطي أسبابها، فتزلَّ قدمٌ بعد ثُبْوتها، وتنحط من الهمة العالية إلى الهمة السفلى، فإن الطباع تُسرق، والمرء على دين خليله، بل أثبتوا على التجريد وتحقيق التوحيد، فإن الله مولاكم {وهو خير الناصرين}؛ فينصركم ويعزكم ويغنيكم بلا سبب، كما وعدكم؛ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

.تفسير الآية رقم (151):

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}
قلت: {الرعب}: الخوف، وفيه الضم والسكون، وهكذا كل ثلاثي ساكن الوسط، كالقدس والعسر واليسر، وشبه ذلك، و{بما أشركوا}: مصدرية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: سنقذف {في قلوب الذين كفروا} كأبي سفيان وأصحابه، {الرعب} والخوف، حتى يرجعوا عنكم بلا سبب، بسبب شركهم بالله {ما لم ينزل به سلطاناً} ولا حجة على استحقاق العبادة، {ومأواهم النار} أي: هي مقامهم، {وبئس مثوى الظالمين} أي: قبح مقامهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ في العلة.
الإشارة: فيها تسلية للفقراء، فإنَّ كل من هم بإذايتهم ألقى الله في قلبه الرعب، حتى لا يقدر أن يتوصل إليهم بشيء مما أمَّل فيهم، وقد رأيتهم هموا بقتلهم وضربهم وحبسهم، وسعوا في ذلك جهدهم، وعملوا في ذلك بينات على زعمهم، تُوجب قتلهم، فكفاهم الله أمرهم، وألقى الرعب في قلوبهم، فانقلبوا خائبين وماتوا ظالمين، والله ولي المتقين.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
قلت: حسَّه: إذا قتله وأبطل حسه، وجواب {إذا}: محذوف، أي: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم امتحناكم بالهزيمة، والواو لا ترتب، والتقدير: حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم سلبنا النصر عنكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد صدقكم الله} ما وعدكم من النصر لو صبرتم واتقيتم، وذلك حين كنتم {تحسونهم} بالسيف، وتقتلونهم حتى انهزموا هاربين، بإذنه تعالى وإرادته، {حتى إذا فشلتم} أي: جبنتم وضعف رأيكم وملتم إلى الغنيمة، {وتنازعتم} في الثبات مع الرماة حين انهزم المشركون، فقلتم: الغنيمةَ الغنيمةَ، فما وقوفكم هنا! وقال آخرون: لا تخالفوا أمر الرسول، ثم تركتم المركز، {وعصيتم الرسول من بعد ما أراكم ما تحبون} من النصر والغنيمة، امتحناكم حينئذ بالهزيمة.
فمنكم {من يريد الدنيا} ليصرفها في الآخرة، وهم الذين خالفوا المركز وذهبوا للغنيمة، {ومنكم من يريد الآخرة} صِرفاً، وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير، محافظةً على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، {ثم صرفكم عنهم} حين خالفتم أمر الرسول، {ليبتليكم} أي: ليختبركم، فيتبين الصابر من الجازع، والمخلص من المنافق، {ولقد عفا عنكم} فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، لاستحقاقكم ذلك، أو تجاوز عن ذنبكم وتفضل بالتوبة والمغفرة، {والله ذو فضل} عظيم {على المؤمنين}؛ يتفضل عليهم بالمغفرة في الأحوال كلها، سواء أديل عليهم أو لهم، فإن الابتلاء أيضاً رحمة وتطهير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول للفقراء الذين استشرفوا على بلاد الخصوصية، ثم فشلوا ورجعوا إلى بلاد العمومية: ولقد صدقكم الله وعده في إدراك الخصوصية لو صبرتم، فإنكم حين كنتم تجاهدون نفوسكم وتحسونها بسيوف المخالفة، لمعت لكم أنوار المشاهدة، حتى إذا فشلتم وتفرقت قلوبكم، وعصيتم شيوخكم قلَّت أمدادكم، وأظلمت قلوبكم، من بعد ما رأيتم ما تحبون من مبادئ المشاهدة، فملتم إلى الدنيا الفانية، فمنكم يا معشر المنتسبين من يريد الدنيا، فصحب العارفين على حرف، وهو الذي رجع وفشل، ومنكم من يريد الآخرة وقطع يأسه من الرجوع إلى الدنيا، وهو الذي ثبت حتى ظفر، ثم صرفكم عن حصبة العارفين، يا من أراد الدنيا من المنتسبين، ليبتليكم، هل صحبتموهم لله أو لغيره، ولقد عفا عنكم وجعلكم من عوام المسلمين، ولم يسلب عنكم الإيمان عقوبة لترك صحبة العارفين. أو لقد عفا عنكم إن رجعتم إلى صحبتهم والأدب معهم، فإن الله {ذو فضل على المؤمنين} حيث لم يعاجلهم بالعقوبة. وبالله التوفيق.
وقال الورتجبي: قوله: {منكم من يريد الدنيا}، أي: منكم من وقع في بحر غني القدم، واتصف به بنعت التمكين ورؤية النعم في شكر المنعم، كسليمان عليه السلام. ومنكم من وقع في بحر التنزيه وتقديس الأزلية، فغلب عليه القدس والطهارة، فخرج بنعت الفقر؛ تجريداً لتوحيده وإفرادِ قدمه من الحدث، كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «الفقر فخري».

.تفسير الآية رقم (153):

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}
قلت: {إذْ}: ظرف لعفا، أو اذكر. وأصعد: أبعد في الأرض، وصعد: في الجبل، فالإصعاد: الذهاب في الأرض المستوية، والصعود: الارتقاء في العلو. وقرئ بهما معاً؛ لأنهما وقعا معاً، فمنهم من فرّ ذاهباً في الأرض، ومنهم من صعد إلى الجبل.
و{لكيلا}: متعلق بأثابكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ولقد عفا عنكم حين كنتم {تُصْعِدُون} عن نبيه- عليه الصلاة والسلام-، منهزمين عنه، تبعدون عنه، {ولا تلوون على أحد} أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض، ولا ينتظر بعضكم بعضاً، {والرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {يدعوكم في أخراكم} أي: في ساقتكم، يقول: «إليَّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرُّ فله الجنة»، وفيه مدح للرسول صلى الله عليه وسلم بالشجاعة والثبات، حيث وقف في آخر المنهزمين، فإن الآخر هو موقف الأبطال، والفرار في حقه صلى الله عليه وسلم محال.
{فأثابكم} أي: فجازاكم على ذلك الفرار، {غمّاً}؛ وهو ظهور المشركين عليكم وقتل إخوانكم، بسبب غم أوصلتموه للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعصيانه والفرار عنه، وقدَّر ذلك {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} من الغنيمة، {ولا} على {ما أصابكم} من الجرح والهزيمة، لأن من استحق العقوبة والأدب لا يحزن على ما فاته ولا على ما أصابه؛ إذ جريمته تستحق أكثر من ذلك، يرى ما نزل به بعض ما يستحقه، فيهون عليه أمر ما نزل به أو ما فاته من الخير.
أو يقول: {فأثابكم غمّاً} متصلاً {بغم}؛ فالغم الأول: ما فاتهم من الظفر والغينمة، والثاني: ما نالهم من القتل والهزيمة، أو الأول: ما أصابهم من القتل والجراح، والثاني: ما سمعوا من الإرجاف بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك ليتمرنوا على المحن والشدائد حتى لا يجزعوا من شيء، وبذلك وصفهم كعب بن زهير في لاميته، حيث قال:
لاَ يَفْرَحُونَ إِذا نَالَتْ رِماحُهُمْ ** وَلَيْسُوا مجازيعاً إذا نِيلُوا

فإن المتمرّن على المصائب المتعوّد عليها يهون عليها أمرها، فلا يحزن على ما أصابه ولا ما فاته، {والله خبير بما تعملون} وبما قصدتم، فيجازيكم على ذلك.
الإشارة: ما زال الدعاة إلى الله من أهل التربية النبوية يدعون الناس إلى الله، ويعرفونهم بالطريق إلى الله، يبنون لهم الطريق إلى عين التحقيق، والناس يبعدون عنهم ويفرّون منهم، وهم في أخراهم يقولون بلسان الحال أو المقال: يا عباد الله، هلم إلينا نعرفُكم بالله، وندلكم على الله، فلا يلوي إليهم أحد ولا يلتفت إليهم بشر، إلا من سبقت له العناية، وأراد الحق تعالى أن يوصله إلى درجة الولاية، سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه، فأثابهم على الفرار غم الحجاب، متصلاً بغم الأسباب، فلا يحزنوا على ما فاتهم من المعرفة؛ إذ لم يعرفوا قدرها، ولا على ما أصابهم من الغفلة والبطالة، إذ لم يتفطنوا لها {والله خبير بما تعملون} يا معشر العباد، من التودد أو العناد. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (154):

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
قلت: {نعاساً}: بد لمن {أمنة}، أو هو المفعول، و{أمنة}: حال منه، مقدمة، أو مفعول له، أي: أنزل عليكم نعاساً لأجل الأمنة، أو حال من كاف {عليكم}، أي: أنزل عليكم حال كونكم آمنين. والأمنة: مصدر أمِن، كالعظَمة والغَلَبة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ثم أنزل عليكم} أيها المؤمنون {من بعد الغم} الذي أصابكم بموت إخوانكم، والإرجاف بقتل نبيكم، الأمن والطمأنينة، حتى أخذكم النعاس وأنتم في الحرب. قال أبو طلحة: (غَشينَا النعاسُ ونحن في المصافّ، حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه). وقال الزبير رضي الله عنه. لقد رأيتني حين اشتدّ الخوف، ونحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أرسل الله- تعالى- علينا النوم، والله إني لأسمع قول معتب، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلُم: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا}.
ثم إن هذا النعاس إنما {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون، أو: هذه الأمنة إنما تغشى طائفة منكم، وأما المنافقون فقد {أهمتهم أنفسهم}، أي: أوقعتهم في الهموم والغموم، أو ما يهمهم إلا أنفسهم، يُدبرون خلاصها ونجاتها، فقد طارت قلوبهم من الخوف، فلا يتصور في حقهم النوم، {يظنون بالله غير الحق} أي: غير الظن الحق، لأنهم ظنّوا أنه لا ينصر- عليه الصلاة والسلام، وأن أمره مضمحل، أو ظنوا أنه قتل، ظنّاً كظن الجاهلية، أهل الشرك، {يقولون} أي: بعضهم لبعض: {هل لنا من الأمر من شيء} أي: عُزلنا عن تدبر أنفسنا، فلم يبق لنا من الأمر من شيء. قاله ابنُ أُبي، لَما بلغة قتل الخزرج.
{قل} لهم يا محمد: {إن الأمر كله لله}؛ ليس بيد غيره شيء من التدبير والاختيار، حال كون المنافقين {يخفون في أنفسهم} من الكفر والنفاق {ما لا يُبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا} أي: لو كان تدبيراً أو اختياراً ما خرجنا سلسلة المقادير، رغماً على أنفكم، فلو {كنتم في بيوتكم} آمنين {لبرز الذين كتب عليهم القتل}، ووصل أجلهم {إلى مضاجعهم} ومصارعهم، رغماً على أنفهم، فإن الله قدَّر الأمور ودبرها في سابق أزله، لا معقب لحكمه، وإنما فعل ذلك، وأخرجكم إلى المعركة {ليبتلي الله ما في صدوركم} أي: يختبر ما فيها من الخير أو الشر، {وليمحص ما في قلوبكم} أي: يكشف ما فيها من النفاق أو الإخلاص، فقد ظهر خبث سريرتكم ومرض قلوبكم بالنفاق الذي تمكن فيه، {والله عليم بذات الصدور} أي: بخفاياها قبل إظهارها. وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء، وإنما فعل ذلك ليُميِّز المؤمنين ويُظهَر حال المنافقين. قاله البيضاوي.
الإشارة: ثم أنزل عليكم أيها الواصلون المتمكنون، أو من تعلق بكم من السائرين.
من بعد غم المجاهدة وتعب المراقبة أمنة في قلوبكم بالطمأنينة بشهود الله، وراحة في جوارحكم من تعب الخدمة في السير إلى الله، حتى وصلتم فنمتم في ظل الأمن والأمان، وسكنتم في جوار الكريم المنان.
قال بعض العارفين: (إذا انتقلت المعاملة إلى القلوب استراحت الجوارح)، وهذه الراحة إنما تحصل للعارفين، أو من تعلق بهم من المريدين، وطائفة من غيرهم؛ وهم المتفقرة الجاهلون، الذين لا شيخ لهم، قد أهمتهم أنفسهم، تارة تصرعهم وتارة يصرعونها، تارة تُشرق عليهم أنوارُ التوجه، فيقوى رجاؤهم في الفتح، وتارة تنقبض عنهم فيظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية، يقولون: هل لنا من الفتح من شيء؟.
قل لهم: {إن الأمر كله لله}؛ يوصل من يشاء ويبعد من يشاء، يُخفون في أنفسهم من العيوب والخواطر الرديئة ما لا يبدون لك، فإذا طال عليهم الفتح، وغلب عليهم الفقر، ندموا على ما فاتهم من التمتع بالدنيا، يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ها هنا بالذل والفقر والجوع، قل لهم: ذلك الذي سبق في علم الله، لا محيد لأحد عنه، ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب، كن صادقاً تجد مرشداً، فلو صدقتم في الطلب لأرشدكم إلى من يُوصلكم ويريحكم من التعب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.